فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق}.
فيه أربعة أقوال:
أحدها: خلقهما للحق.
والثاني: خلقهما حقًا.
والثالث: خلقهما بكلامه، وهو الحق.
والرابع: خلقهما بالحكمة.
قوله تعالى: {ويوم يقول كن فيكون} قال الزجاج: الأجود أن يكون منصوبًا على معنى: واذكر يوم يقول كن فيكون، لأن بعده {وإذ قال إِبراهيم} فالمعنى: واذكر هذا وهذا.
وفي الذي يقول له كن فيكون، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يوم القيامة، قاله مقاتل.
والثاني: ما يكون في القيامة.
والثالث: أنه الصور، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه، قالهما الزجاج.
قال: وخُصَّ ذلك اليوم بسرعة إيجاد الشيء، ليدل على سرعة أمر البعث.
قوله تعالى: {قوله الحق} أي: الصدق الكائن لا محالة {وله الملك يوم ينفخ في الصور}.
وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو: {ننفخ} بنونين ومعنى الكلام: أن الملوك يومئذ لا ملك لهم، فهو المنفرد بالملك وحده، كما قال: {والأمر يومئذ لله} [الإنفطار: 19] وفي {الصور} قولان:
أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه؛ روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور، فقال: «هو قرن ينفخ فيه» وقال مجاهد: الصور كهيأة البوق.
وحكى ابن قتيبة: أن الصور: القرن، في لغة قوم من أهل اليمن، وأنشد:
نَحْنُ نَطَحْنَاهُم غَدَاةَ الجَمْعَيْن ** بالضَّابِحَاتِ في غُبارِ النَّقْعَيْن

نَطْحًا شَدِيدًا لا كَنَطْحِ الصّورَيْن

وأنشد الفراء:
لَوْلاَ ابنُ جَعْدَةَ لَم يُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُم ** وَلاَ خُرَاسَانُ حتَّى يُنْفَخَ الصُّوْرُ

وهذا اختيارُ الجمهور.
والثاني: أن الصور جمع صورة؛ يقال: صورة وصور، بمنزلة سورة وسور، كسورة البناء؛ والمراد نفخ الأرواح في صُوَرِ الناس، قاله قتادة: وأبو عبيدة.
وكذلك قرأ الحسن، ومعاذ القارئ، وأبو مِجْلَز، وأبو المتوكل {في الصُّوَر} بفتح الواو.
قال ثعلب: الأجود أن يكون الصور: القرن، لأنه قال عز وجل: {ونُفخ في الصور فصَعِق من في السماوات ومن في الأرض} ثم قال: {ثم نُفخ فيه أخرى}؛ ولو كان الصُّوَر، كان: ثم نُفخ فيها أو فيهن؛ وهذا يدل على أنه واحد؛ وظاهر القرآن يشهد أنه يُنفخ في الصُّور مرتين.
وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصور قرن يُنفخ فيه ثلاث نفخات؛ الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين» قال ابن عباس: وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى، يعني: نفخة الصعق.
قوله تعالى: {عالم الغيب} وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه، {والشهادة} وهو ما شاهدوه ورأوه.
وقال الحسن: يعني بذلك السر والعلانية. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {وهو الذي خلق} الآية، {خلق} ابتدع وأخرج من العدم إلى الوجود، و{بالحق}، أي لم يخلقها باطلًا بغير معنى بل لمعان مفيدة ولحقائق بينة منها ما يحسه البشر من الاستدلال بها على الصانع ونزول الأرزاق وغير ذلك، وقيل المعنى بأن حق له أن يفعل ذلك، وقيل {بالحق} معناه بكلامه في قوله للمخلوقات {كن} وفي قوله: {ائتيا طوعًا أوكرهًا} [فصّلت: 11].
قال القاضي أبو محمد: وتحرير القول أن المخلوقات إنما إيجادها بالقدرة لا بالكلام، واقتران {كن} بحالة إيجاد المخلوق فائدته إظهار العزة والعظمة ونفوذ الأوامر وإعلان القصد، ومثال ذلك في الشاهد أن يضرب إنسان شيئًا فيكسره ويقول في حال الكسر بلسانه: انكسر فإن ذلك إنفاذ عزم وإظهار قصد، ولله المثل الأعلى، لا تشبيه ولا حرف ولا صوت ولا تغير، أمره واحدة كلمح البصر فكأن معنى الآية على هذا القول وهو الذي خلق السماوات والأرض بقوله: {كن} المقترنه بالقدرة التي بها يقع إيجاد المخلوق بعد عدمه فعبر عن ذلك {بالحق}، {ويوم يقول} نصب على الظرف وهو معلق بمعمول فعل مضمر، تقديره: واذكر الخلق والإعادة يوم، وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها: واذكر الإعادة يوم يقول الله للأجساد كن معادة، ثم يحتمل أن يتم الكلام هنا ثم يبدأ بإخبار أن يكون قوله الحق الذي كان في الدنيا إخبارًا بالإعادة، ويحتمل أن يكون تمام الكلام في قوله: {فيكون} ويكون {قوله الحق} ابتداء وخبر أو على الاحتمال الذي قبل ف {قوله} فاعل، قال الزجّاج قوله: {يوم} معطوف على الضمير من قوله: {واتقوه} فالتقدير هنا على هذا القول واتقوا العقاب أو الأهوال والشدائد يوم، وقيل: إن الكلام معطوف على قوله: {خلق السماوات} والتقدير على هذا: وهو الذي خلق السماوات والأرض والمعادات إلى الحشر يوم، ولا يجوز أن تعمل هذه الأفعال لا تقديرك اذكر ولا اتقوا ولا خلق في يوم لأن أسماء الزمان إذا بنيت مع الأفعال فلا يجوز أن تنصب إلا على الظرف، ولا يجوز أن يتعلق {يوم} بقوله: {قوله الحق} لأن المصدر لا يعمل فيما تقدمه، وقد أطلق قوم أن العامل اذكر أو خلق، ويحتمل أن يريد ب {يقول} معنى المضي كأنه قال: وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق يوم يقول بمعنى قال لها {كن}، ف {يوم} ظرف معطوف على موضع {قوله الحق} إذ هو في موضع نصب، ويجيء تمام الكلام في قوله: {فيكون}، ويجيء {قوله الحق} ابتداء وخبرًا ويحتمل أن يتم الكلام في {كن}، ويبتدأ {فيكون قوله الحق} وتكون {يكون} تامة بمعنى يظهر، و{الحق} صفة للقول و{قوله} فاعل، وقرأ الحسن {قُوله} بضم القاف، {وله الملك} ابتداء وخبر {يوم ينفخ في الصور} {يوم} بدل من الأولى على أن {يقول} مستقبل لا على تقدير مضيه، وقيل: بل متعلق بما تضمن الملك من معنى الفعل او بتقدير ثابت أو مستقر يوم، و{في الصور} قال أبو عبيدة هو جمع صورة فالمعنى يوم تعاد العوالم وقال الجمهور هو الصور القرن الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث ورجحه الطبري بقول النبي عليه السلام: «إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينظر متى يؤمر فينفخ»، وقرأ الحسن {في الصوَر} يفتح الواو وهذه تؤيد التأويل الأول وحكاها عمرو بن عبيد عن عياض {عالم} رفع بإضمار مبتدأ وقيل نعت ل {الذي} وقرأ الحسن والأعمش {عالمٍ} بالخفض على النعت للضمير الذي في {له}، أو على البدل منه من قوله: {له الملك}، وقد رويت عن عاصم، وقيل ارتفع {عالم} بفعل مضمر من لفظ الفعل المبني للمفعول تقديره ينفخ فيه عالم على ما أنشد سيبويه: [الطويل]
لِيَبْكِ يزيدَ ضارعٌ لخصومةٍ ** وآخرُ مِمّنْ طَوّحَتْهُ الطَّوائِحُ

التقدير يبكيه ضارع، وحكى الطبري هذا التأويل الذي يشبه ليبك يزيد عن ابن عباس ونظيرها من القرآن قراءة من قرأ {زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} [الأنعام: 137] بضم الزاي ورفع الشركاء وروي عن عبد الوارث عن أبي عمرو {يوم ننفخ في الصور} بنون العظمة، و{الغيب والشهادة} معناه ما غاب عنا وما حضر، وهذا يعم جميع الموجودات. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} أي فهو الذي يجب أن يُعبد لا الأصنام.
ومعنى {بالحق} أي بكلمة الحق.
يعني قوله: {كُنْ}.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} أي واذكر يوم يقول كن.
أو اتقوا يوم يقول كن.
أو قَدِّر يوم يقول كن.
وقيل: هو عطف على الهاء في قوله: {واتقوه}.
قال الفراء: {كن فيكون} يقال: إنه للصُّور خاصَّة؛ أي ويوم يقول للصُّور كن فيكون.
وقيل: المعنى فيكون جميع ما أراد من موت الناس وحياتهم.
وعلى هذين التأوِيلين يكون {قَوْلُهُ الحق} ابتداءً وخبرًا.
وقيل: إن قوله تعالى: {قَوْلُهُ} رفع بيكون؛ أي فيكون ما يأمر به.
و{الْحَقُّ} من نعته.
ويكون التمام على هذا {فيكون قوله الحق}.
وقرأ ابن عامر {فيكونَ} بالنصب، وهو إشارة إلى سرعة الحساب والبعث.
وقد تقدّم في البقرة القول فيه مستوفى.
قوله تعالى: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} أي وله المُلْك يومَ ينفخ في الصُّور.
أو وله الحق يوم ينفخ في الصور.
وقيل: هو بدل من {يوم يقول}.
والصُّور قَرْن من نُور يُنفخ فيه، النفخة الأولى للفَناء والثانية للإنشاء.
وليس جمع صُورة كما زعم بعضهم؛ أي ينفخ في صُور الموتى على ما نبيِّنه.
روى مُسْلم من حديث عبد الله بن عمرو: «ثم يُنفخ في الصُّور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا ورفَع ليتا قال وأوّل من يسمعه رجل يَلُوطُ حَوْض إبِلِه قال فَيَصْعَق ويَصْعَق الناسُ ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرًا كأنه الطّلُّ فَتنْبُت منه أجسادُ الناس ثم يُنفخ فيهِ أخرى فإذا هم قيام ينظرون» وذكر الحديث.
وكذا في التنزيل {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى} [الزمر: 68] ولم يقل فيها؛ فعُلم أنه ليس جمع الصُّورة.
والأمم مُجْمِعة على أن الذي يَنفخ في الصُّور إسرافيلُ عليه السلام.
قال أبو الْهَيْثم: من أنكر أن يكون الصُّور قَرْنا فهو كمن يُنكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات.
قال ابن فارس: الصُّور الذي في الحديث كالقَرْن يُنفَخ فيه، والصُّور جمع صُورة.
وقال الجوهري: الصُّور القَرْن.
قال الراجز:
لقد نَطحناهم غَداةَ الجَمْعَيْن ** نَطْحًا شديدًا لا كنطح الصُّورَيْن

ومنه قوله: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [النمل: 87].
قال الكَلْبِيّ: لا أدري ما هو الصُّور.
ويقال: هو جمع صُورة مثلُ بُسْرَة وبُسْر؛ أي يُنفخ في صُوَر الموتى والأرواح.
وقرأ الحسن {يومَ يُنْفَخُ في الصُّوَر}.
والصِّور (بكسر الصاد) لغة في الصُّوَر جمع صُورة والجمع صِوار، وصِيّار (بالياء) لغة فيه.
وقال عمرو بن عبيد: قرأ عِياض {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّوَر} فهذا يعني به الخلق. والله أعلم.
قلت: وممن قال إن المراد بالصُّور في هذه الآية جمع صُورة أبو عبيدة.
وهذا وإن كان محتملًا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسُّنّة.
وأيضًا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين؛ بل ينفخ فيه مرة واحدة؛ فإسرافيل عليه السلام يَنفخ في الصُّور الذي هو القَرْن والله عز وجل يُحيي الصُّوَر.
وفي التنزيل {فَنَفَخْنَا فِيه مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 21].
قوله تعالى: {عَالِمُ الغيب والشهادة} برفع {عالم} صفة ل {الذِي}؛ أي وهو الذي خلق السموات والأرض عالم الغيب.
ويجوز أن يرتفع على إضمار المبتدأ.
وقد رُوي عن بعضهم أنه قرأ {يَنْفُخ} فيجوز أن يكون الفاعل {عَالِمُ الغَيْبِ}؛ لأنه إذا كان النفخ فيه بأمر الله عز وجل كان منسوبًا إلى الله تعالى.
ويجوز أن يكون ارتفع {عَالِمُ} حملًا على المعنى؛ كما أنشد سيبويه:
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارِعٌ لخُصومةٍ

وقرأ الحسن والأعمش {عالِم} بالخفض على البدل من الهاء التي في {له}. اهـ.

.قال الخازن:

قوله عز وجل: {وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق} يعني إظهارًا للحق فعلى هذا تكون الباء بمعنى اللام لأنه جعل صنعه دليلًا على وحدانيته.
وقيل: خلقها بكمال قدرته وشمول علمه وإتقان صنعه وكل ذلك حق.
وقيل خلقها بكلامه الحق وهو قول كن فيه دليل على أن كلام الله تعالى ليس بمخلوق لأنه لا يخلق مخلوق بمخلوق {ويوم يقول كن فيكون}.
وقيل إنه راجع إلى خلق السموات.
والمعنى: اذكر يوم قال للسموات والأرض كن فيكون.
قيل: يرجع إلى القيام ويدل عليه سرعة البعث والحساب كأنه قال: ويوم يقول للخلق موتوا فيموتون وقوموا للحساب فيقومون أحياء {قوله الحق} يعني أن قول الله تبارك وتعالى للشيء إذا أراده كن فيكون حق وصدق وهو كائن لا محالة {وله الملك يوم ينفخ في الصور} إنما أخبر عن ملكه يومئذ وإن كان الملك له سبحانه وتعالى خالصًا في كل وقت في الدنيا والآخرة لأنه لا منازع يومئذ يدعي الملك وأنه المنفرد بالملك يومئد وأن من كان يدعي الملك بالباطل من الجبابرة والفراعنة وسائر الملوك الذين كانوا في الدنيا قد زال ملكهم واعترفوا بأن الملك لله الواحد القهار وإنه لا منازع له فيه واعلموا أن الذي كانوا يدعونه من الملك في الدنيا باطل وغرور.
واختلف العلماء في الصور المذكور في الآية فقال قوم: هو قرن ينفخ فيه وهو لغة أهل اليمن: قال مجاهد: الصور قرن كهيئة البوق ويدل على صحة هذا القول ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» أخرجه أبو داود والترمذي.
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ فكان ذلك ثقل على أصحابه» فقالوا كيف نفعل يا رسول الله وكيف نقول؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا، وربما قال توكلنا على الله» أخرجه الترمذي.
وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة والنفخ فيه إحياؤها بنفخ الروح فيها.
وهذا قول الحسن ومقاتل.
والقول الأول أصح لما تقدم في الحديث ولقوله تعالى في آية أخرى: ثم نفخ فيه أخرى: ولإجماع أهل السنة أن المراد بالصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل نفختين، نفخة الصعق، ونفخة البعث للحساب.
وقوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة} يعني أنه تعالى ما غاب عن عباده وما يشاهدونه فلا يغيب عن عمله شيء {وهو الحكيم} يعني في جميع أفعاله وتدبير خلقه {الخبير} يعني بكل ما يفعلونه من خير أو شر. اهـ.